الجمعة، 9 يوليو 2021

نصف إلتفاتة وخبزة

 نصف إلتفاتة .. في عمر الطفولة كانت كفيلة بحفر ذكرى بقيت معي عمراً .. تتردد على عقلي و تحاصر مخيلتي بين الفينة و الأخرى .. ظلّ وقعها يلازمني حتى هذه اللحظة التي أصافح فيها أزرار لوحة المفاتيح مفصحة عمّا أذكره عن ذلك الموقف .

رداء بني أو بالأحرى أبيض .. بل كان أبيضاً و لكنه مشبَع بالأتربة الأرضية ، و كأن صاحبها قد خرج من قبره و أتى أمام عينيّ ، كنت أحمل كيس خبز منصرفة لألحق بالغداء و كان هو يحمل قطعة نقدية واحدة تكفيه لخبزة واحدة ربما قد يقضي يومه عليها ، ليس أهم من هيئته تلك سوى ملامح وجهه ، تلك الإبتسامة الصغيرة التي كانت ملتصقة بوجهه و النظرة التي تخفي ورائها أسطرٌ و جملٌ و حكايات ، كانت ثوانٍ و لكنها استمرت تطاردني حتى وصولي ، كانت تتكرر كجهاز قديم أُتلِف شريطه .

كان الأمر غريباً لطفلة اعتادت النسيان باللهو .. طفلة تمسح دموعها فتبدأ بإطلاق ضحكاتها بعد فترة وجيزة .. كيف لمخيلتي العاملة الصغيرة أن تغفل سبيل النسيان .. و كيف لها أن تستمرّ بإعادة ذلك المشهد في ذهن تلك الطفلة التي أصبحت الآن فتاة في عمر الشباب ؟

لماذا لا يختفي ذلك الطفل من رأسها ؟ لماذا يقيم خلف عينيها ؟ لماذا تكبر و يبقى هو طفلاً ؟ 

أسئلة تنطلق كلما التقى ذلك اليافع بخلايا دماغها العاجزة .. في حضوره كانت تختفي الكلمات ، و يصمت ذلك الصوت الذي لا يهدأ بداخلها ، حتى تلك اللحظة التي عندما استحضره خيالها مجدداً و هي على سجادتها ، أحبّت أن تخصص له دعوة بسيطة.. دعوةٌ لطيفها المعتكف في باطن تفكيرها .

ذلك الغلام الذي اقترن بالوطن و أيامه و ذكرياته ، الذي علمني حضوره في حياتي مداومة الحمد ، علّمني كيف أشكر و أثني على من وهبني الكثير و لم أدرك منها سوى القليل ، تعلمت منه أيضاً أن في الوطن صغارٌ ينتظرون إنقاذهم من تلك الحفرة المظلمة ، أو تلك الدوامة الساحقة التي تضرب بقسوة وهن أجسادهم ، ينتظرون انتشالهم من جحور اتخذوها منازلاً لهم ، ينتظرون أن أحارب من أجلهم .. من أجل أن ينالواْ حياة مكتملةَ الأركان .. ينتظرون أن أصبح صوتهم و عينهم و أياديهم الممتدة إلى الخير و النعم .

سآتي .. هو وعد عليّ .. سألتقي بذلك الطفل ، خليلُ مخيلتي .. سأسلّم عليه و أهجو إليه ضعف طفولتي و جبنها .. سآخذ بيده في جولة فوق ثرى الوطن .. و سأبحر في عالمه ، و أنقذه من موجٍ عالٍ يكاد يلتهمه .. أو إن تطلب الأمر ، أغرق معه .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق