الجمعة، 30 يوليو 2021

إنسانٌ و الطبيعة

 


تبدأ قصة الإنسان مع الطبيعة منذ اللحظة الأولى له على هذه الحياة .. يتعلق بمكوناتها تدريجياً مع تطور مراحل عمره .. ترتبط بها أحداث و قصص حياته ..مع تعامد القمر مع مجلسه تتوهج روحه .. مع ابتسامة الفجر يبتدأ أحاديثه .. مع نشيد الطير و تمايل شجيرات الصبا طرباً تضحك له نسائم الأصيل فيحييها .. و يداعب الندى جفونه برقة .. تتصاعد أمنياته مع أنفاسه فتستبشر السماء بها و تمنحها عناقاً دافئاً .. و يسدل الغروب رداءه مترفعاً في وسامة طاغية فتشيح بوجهها أمواج البحر في خجلٍ ، و يتابع هو كل تلك المشاهد بلذة و يحلم بها عندما يغلق عينيه .



في زاويتي تكمن استراحة جانبية حيث أقضي واقعي بالحلم .. و أكون واقعية للغاية في حلمي ، حيث يكمن مزيج متناهي المثالية بين القوى و الأحاسيس ، حيث أساهم في إنشاء سعادتي الخاصة بمخاطبة الأمواج و الغناء مع النسيم و التلصص لمراقبة الشمس التي تزداد جمالاً كلما توارت خجلة بحجابها المخملي .. هنا حيث ينفى البشر تماماً و تبقى الطبيعة هي سيدة المكان و الزمان و الكائنات .. حينها فقط تصبح كل المشاهد حولي هي حياتي و عناصر الطبيعة عائلتي .. و يصبح هذا العالم بأسره ملك لي .

حينها تتحد روحي مع كل تلك العناصر ، فحيناً أكون شجرة بين الشجيرات أو نخلة باسقة تتشبث برمال حارقة ، أو أكون قطرة ماء في محيط شاسع ، أو ربما غيمة تتجول في صفحة السماء ، أو نجمة معلقة في رداء أسود ، أو مجرد نسمة لطيفة تحمل قبلة لمن تقابله من الكائنات .

ثم أمضي تاركة ورائي رسالة صغيرة لمن يأتي بعدي ، رسالة خاصة لن أكشف عن محتواها .. سيحملها خليفتي في قلبه .







ملاحظة : جميع الصورفي هذه المقالة أخذت للطبيعة الخلابة في السودان .

الثلاثاء، 27 يوليو 2021

في السماء أجد ذاتي


السماء


 تربطني بالسماء علاقة وجودية ، فكلما ابتدأت يومي عمدت إلى نافذتي لألقي عليها نظرة تمنحني طاقة ليوم ابتدأ للتو ، و كلما تأملتها وجدت فيها سكون العالم و طمأنينته ، طاقته و حيويته ، حتى غضبه و انفعالاته ، بين غروب و شروق تختزل قصة يومي ، ليل و نهار يمثلون فصول شخصيتي ، أختصر قصتي بسماءٍ شديدة الإختلاف عن الإنسان ، لكن بمجرد التأمل فيها أجد ذاتي ، أراها شبيهة بإنسان متزن يمضي في هذا الحياة ، ما يميزها هو استمرارها في نظامها بتوازن و صمود مطلق ، من بديع صنع الخالق ، هو بديع السماوات و الأرض .

 سماء واحدة سحرت عيني و حتى عقلي فكيف بسبعٍ أخر أتقن إرساءهن ؟

إن أردت شيئاً من سحر الكون ، ارفع نظرك و تأملها .. و إن احتجت بعضاً من المواساة فلا تزيح نظرك عنها .. هي مزيج من كل شيء ، هي الهام الكاتب و مواساة الحزين و راحة المجهد و نشوة المتأمل و فلسفة المتعلم ، هي نعمة الله المحمودة إذا أمطرت ، و عقابه إذا سخط ، هي رحيق الإيمان و الطريق إليه ، هي من يجد فيها المرء طمأنينته و يشارك معها أسرار قلبه .

العلاقة بين الإنسان و السماء علاقة وجودية مستمرة لا يمكن التغاضي عنها أو تجاهلها ، فتلك السماء من فوقنا تحب فرض سطوتها علينا فتأسر عيوننا بهيمنة طاغية ، لتذكرنا بأنفسنا ، بقيمتنا ، بضآلة أحجامنا ، و حاجتنا لربنا في كل حين ، لتمنحنا من دفء الوطن و تطفئ أشواقنا .

الثلاثاء، 13 يوليو 2021

غريق أشفق عليه البحر !

غرق المهاجرين غير الشرعيين

عندما قرر أن يلقي بنفسه إلى الأمواج .. كان يعلم بأنه سيخوض صراعاً فتّاكاً مع أمواج من صنف آخر .. سيكون صراع القدر و المصير ، و هو الجهاد من أجل نصف حياة .. ذهب محمّلاً بمتاعٍ كثيف من خيبات الأمل .. رحل واضعاً الموت نصب عينيه .. لا يرى سواه على متن قاربه المتهالك .

تتكالب عليه أمواج و أفواج تحمل ظلمة العالم بأسره في جوفها .. تتدافعه الرياح العاتية فيتمايل باضطراب .. يلكمه الزمهرير كلما غفى أو تغافل .. تتقاذفه الحدود و المسافات .. لتلقي به إلى بر الحياة أو بر العدم .. يحتسي ليالٍ من السُّهد البائس .. فتطوقه كوابيس يَقِظة و تمطر السماء عليهِ حمماً لاذعةً .

و عندما وصل .. استقبلته أعين جارحة و أفئدة أشدّ إيلاماً مما خُيِّل إليه قبل الوصول .. لطالما تجاهل كونه كائن غير مرحّب فيه في أي وجهة يطؤها و أي بقعة تستقبله .. لأنه كائن سيظلّ الإرتحال مصيره و يومه و غده .. لأنه إنسان هجر وطنه ، فكيف يكون له للإتصال سبيلاً ؟ 

و يمضي و يستمر بالمضيّ في رحلته اللانهائية حتى يصل إلى وجهة اللاعودة ، فيمحو بذلك كل إحصاء فقير ليحلّ محله صفراً مطلقاً .

و كيف يكتسب الشخص قيمته في هذه الحياة ؟ إن كان قد أُقحِم في معركةٍ بين أطراف هو ليس منها ، و لكنه هو الخاسر الأكبر فيها .. هو صفر هذه المعادلة ، هو الطرف الذي أُلقيَ في حفرة على حين غرة و أضرمت به نيران حارقة .. دون أن يكون له حدثٌ أو حادثٌ و حديث !

و بعد ذلك كله نظلّ نسأل ببراءة : و هل للإنسان قيمة إذن ؟

عندما يلتهمه البحر و موجه .. فيبكي إشفاقاً عليه .. و يصمت البشر صمتاً أبدياً في ثبات مريب .

ضمائر صامتة .

أرواح غارقة .

حياة تنتظر أجلها خلف القضبان .

لذلك هو صمت الضمير الذي نحاربه .. نناديه لعله يستيقظ حيناً .. حتى لا يغطّ في غيبوبة تتسبب في مقتله .




الجمعة، 9 يوليو 2021

نصف إلتفاتة وخبزة

 نصف إلتفاتة .. في عمر الطفولة كانت كفيلة بحفر ذكرى بقيت معي عمراً .. تتردد على عقلي و تحاصر مخيلتي بين الفينة و الأخرى .. ظلّ وقعها يلازمني حتى هذه اللحظة التي أصافح فيها أزرار لوحة المفاتيح مفصحة عمّا أذكره عن ذلك الموقف .

رداء بني أو بالأحرى أبيض .. بل كان أبيضاً و لكنه مشبَع بالأتربة الأرضية ، و كأن صاحبها قد خرج من قبره و أتى أمام عينيّ ، كنت أحمل كيس خبز منصرفة لألحق بالغداء و كان هو يحمل قطعة نقدية واحدة تكفيه لخبزة واحدة ربما قد يقضي يومه عليها ، ليس أهم من هيئته تلك سوى ملامح وجهه ، تلك الإبتسامة الصغيرة التي كانت ملتصقة بوجهه و النظرة التي تخفي ورائها أسطرٌ و جملٌ و حكايات ، كانت ثوانٍ و لكنها استمرت تطاردني حتى وصولي ، كانت تتكرر كجهاز قديم أُتلِف شريطه .

كان الأمر غريباً لطفلة اعتادت النسيان باللهو .. طفلة تمسح دموعها فتبدأ بإطلاق ضحكاتها بعد فترة وجيزة .. كيف لمخيلتي العاملة الصغيرة أن تغفل سبيل النسيان .. و كيف لها أن تستمرّ بإعادة ذلك المشهد في ذهن تلك الطفلة التي أصبحت الآن فتاة في عمر الشباب ؟

لماذا لا يختفي ذلك الطفل من رأسها ؟ لماذا يقيم خلف عينيها ؟ لماذا تكبر و يبقى هو طفلاً ؟ 

أسئلة تنطلق كلما التقى ذلك اليافع بخلايا دماغها العاجزة .. في حضوره كانت تختفي الكلمات ، و يصمت ذلك الصوت الذي لا يهدأ بداخلها ، حتى تلك اللحظة التي عندما استحضره خيالها مجدداً و هي على سجادتها ، أحبّت أن تخصص له دعوة بسيطة.. دعوةٌ لطيفها المعتكف في باطن تفكيرها .

ذلك الغلام الذي اقترن بالوطن و أيامه و ذكرياته ، الذي علمني حضوره في حياتي مداومة الحمد ، علّمني كيف أشكر و أثني على من وهبني الكثير و لم أدرك منها سوى القليل ، تعلمت منه أيضاً أن في الوطن صغارٌ ينتظرون إنقاذهم من تلك الحفرة المظلمة ، أو تلك الدوامة الساحقة التي تضرب بقسوة وهن أجسادهم ، ينتظرون انتشالهم من جحور اتخذوها منازلاً لهم ، ينتظرون أن أحارب من أجلهم .. من أجل أن ينالواْ حياة مكتملةَ الأركان .. ينتظرون أن أصبح صوتهم و عينهم و أياديهم الممتدة إلى الخير و النعم .

سآتي .. هو وعد عليّ .. سألتقي بذلك الطفل ، خليلُ مخيلتي .. سأسلّم عليه و أهجو إليه ضعف طفولتي و جبنها .. سآخذ بيده في جولة فوق ثرى الوطن .. و سأبحر في عالمه ، و أنقذه من موجٍ عالٍ يكاد يلتهمه .. أو إن تطلب الأمر ، أغرق معه .

أمعاء خاوية !

 


شاهدته لأول مرة ، فانقبض صدري ، كان منظراً مفاجئاً لدرجة اختلطت بها التفسيرات بالتساؤلات في عقلي .. كنت أحاول أن أميّز ما تراه عينيّ .. أهو جسد ملقىً بلا روح .. أم نصف روح محشوة بداخل جسدٍ مهترئ .. أم روح مرئية فقط ، أم لا شيء من هذا و ذاك ؟ 

ثم تساءلت كثيراً .. هل يعقل ؟ هل يفعل إنسانٌ بنفسه هكذا ؟ و في سبيل ماذا ؟ ما هو ذلك الدافع الذي يحرك إنساناً ليلقي بنفسه في وديان سحيقة من التهلكة ، أن يضحي بذلك الجسد المتكامل الصحيح الذي وُهِب له من الخالق المنان ، أن يعطّل ذلك النظام الساري بجسمه من أكبر أعضاءه حتى أبسط خلاياه !

كان الأمر صادماً و باعثاً بالعديد من الأسئلة الروحية العميقة ، أَهي الحرية ، من تدفعنا إلى كل ذلك ، من تحرّك كل شعور فينا إلى ذروته ، و توجه كل تفكيرنا نحو آفاق المجهول ؟ هل تتحمل الحرية كل تلك الآثام ؟ أم أنه في سبيلها يتحول كل إثم إلى ثواب .. و كل عقاب إلى تعزيز مجزٍ !

أهي ثمينة إلى هذا الحد ، إلى حد أن تحصد أرواح الشرفاء .. و تستقي من دماء الأنقياء .. و تنعم بكلمات الحق من فمِ صنديد لا يهاب خناجر الغدر و سهام الإغتيال .

في صفحاتها أسماء موسومة بأسمى الصفات الإنسانية .. ليسواْ ضحايا .. بل أيقونات تكتسي الخلود .

مثل قصة أمعاء خاوية .. حاربت قوانين الطبيعة و سنن البشر حتى تظلّ صامدة بوجه أشباح الموت التي كانت تحدّق فيها بحدة ، و توجه صفعة لوجوه بضع كائناتٍ تستهوي البطش ، و تتمرغ في وحل الظلم دون رادع ،

و انتصرت .. نعم انتصرت تلك الأمعاء المنهكة في معركتها ، و نالت رشفة من رحيق الحرية المنعش ، حتى دبّت فيها الحياة من جديد ، و حل عليها الربيع أخيراً من بعد أشهر الجفاف القاتلة .

نعم فعلها و هو أهلها ، لأنه عندما جفّ جسده .. ارتوت روحه بالنصر ، و لأنه ما كان منهزماً في أي حين ، بل كانت عيناه تطالع السماء دائماً باشتياق ، و كانت روحه ترقب العُلا ، و كان اسمه يحلّق حرّاً يلقي التحايا على الشهداء و يسلم على الأحباب بكل ود .

نعم هو الغضنفر و سواه كثير ، محاربون أشاوس يحلمون بالحرية في كل ليلة ، فيستيقظون فقط لتحقيق ذلك الحلم ، و يتشبثون بكل قطرة أمل تنتشلهم إلى فضاءات واسعة ، هم كُثُر من حولنا ، يحتفي بهم التاريخ و يسجل أصواتهم في قواميسه و في أذهان أبطال ما زالواْ قيد الإنشاء ، تصطنعهم الحرية لنفسها و تجهزهم لخوض المعترك الأضخم في نضالهم المستمرّ و الممتدّ ممن سبقوهم .

هو نزال وجود مستمرّ .. إما أن تحارب لتنال أو تقعد خائباً .. النصر و لا سواه ثمن يُقبَل .

و كأن لسان حالهم يقول : على هذه الأرض ما يستحق الحياة و الموت .. و النضال و المعاناة .. و الأمل و الألم ، و مزيج من شتى فصول الحياة ، لأنها أرض الأحرار و سوف تظلّ أبد الدهر .

أبشركم و أهنئكم .. بحياة جديدة للغضنفر يستقبلها بأهازيج النصر و السعادة ، و الحرية لكل معتقل قد سلبت منه  ، و لأنهم شخصيات جديرة بالذكر في كل مكان و كل محفل أحببت أن أخصص هذه المساحة لأتحدّث قليلاً و أهب كلماتي الإذن بالتعليق على حدثٍ أثار توقدها و اندفاعها ، لتنال شرف الحديث عن تضحية رفيعة الشأن انطلقت تنادي بحريتها حتى ظفرت بها .

و حتى هذه اللحظة لا يزال العديد من الأسرى يواصلون إضرابهم المفتوح عن الطعام على أمل أن يفطرواْ على حلاوة النصر ، فيا رب بشرهم .

الخميس، 8 يوليو 2021

نداءات الوطن .

هناك بعض الأمور التي تحدث بداخلي .. بدأت أدركها و لكنني ما زلت عاجزة عن تفسير الكثير منها !

تحاصرني غرابة التفاصيل من كل جهة محاوِلةً إخضاعي ، فأقترب من الإستسلام لها .. 

حتى يفضّ فقاعة الزمان إبرة واقعٍ يأبى أن يُغيَّب من على المشهد بالمطلق .

كأن أسراب من البعيد تناديني لتنتشلني من مقبرة الفراق فيتبعثر معها كياني و تضيع الأحرف في الكلمات ، و الكلمات في الجُمَل .. بلا جدوى !

يبدو الأمر عجيباً لدرجة لا تُصَدق و لكنه حافلٌ بالمشاعرِ المحتشدةِ التي استنفدت دفاعات قلبي و شرعت بالتدافع للظهور .. من أجل نور .. من أجل ذكرى .. من أجل نداءات الوطن هل يعقل ؟

رسائلٌ في كل مكان .. و في أحيانٍ تتحطم في إثرها أصنام التوقعات .. تفاجئني بنسماتٍ تميزها حواسي جيداً فيخلد العقل في سباتٍ من التأمل ، يغيب معه التواصل إلى أبعد مدى ، و تتبدَّل جُغرافيتي و تاريخي ، و يستوي عندها واقعي و خيالي ، و تبدأ حجرات الفؤاد المختزن في أعماقي بالعمل كما لم تعمل من قبل .. فتنتفي شهيتي لمواجهة الحقائق و التفاسير و الإجابات الصريحة ، و يبقى الشغف باستمرار تلك اللحظة العابرة عمراً بأكمله .. لأبقى أسيرة جنونها و سكونها و دقائقها و ثوانيها و كل تفاصيلها ، حتى النفَس الذي يجيء فيها و يغادر لا أغفل عنه.

أحب الأمل و أعشق الحلم .. لأنه يجمعني بمكامن الحب في قلبي و يُسكِن شوقٌ يتخبط في باطن جسدي ،

لا معنى .. لا تفسير .. لا جدوى يهمني أن أفهمها كل ما أعرفه هو أثر وجودك الهائل في حياتي .