الاثنين، 31 أغسطس 2020

مشهد : الهروب من الذكريات .

فتح خزانته لأول مرة بعد غياب دام لأشهر طوال ، فتدفقت في رأسه ينابيع من الذكريات التي استيقظت من غيبوبة الوحدة ، تغيرت أمور شتى بداخله و لكن تلك المشاعر التي تنطلق مع كل غرض في تلك الخزانة قد بقيت على حالها .
الخزانة التي احتفظت بهيئتها الدائمة حتى بعد فراق مكث طويلاً ، ها هي تحيي مواطن في قلبه من جديد ..
وقعت عينيه أولاً على ذلك الصندوق الصغير الذي خبأ بداخله ما تبقى من طفولته ، صور و لوحات مزينة بألوان البراءة ، هذا الصندوق الذي كان رفيقه في جميع لحظات إستراحاته الصغرى .
صرف نظره ليرى ذلك القميص الذي يعلو قائمة قمصانه و الذي جاءه كهدية من والدته في ميلاده السابع عشر .. ما زال يحتفظ به !
و زجاجة القهوة المستقرة في الرف العلوي  أخذها ليشتم رائحة عشيقاته الخمسة و السبعون بعد المائة ، كما أحصاها بكل حب في آخر مرة كان فيها هنا ، حبيبات بُنٍّ تفوح بأرقى نفحات العتاقة التي ترتخي معها كل الحواس .
ثم ماذا ؟ تراجع خطوة للوراء و بدأ يتساءل .. كيف لغياب استمر لشهور تقترب من مرتبة عام كامل أن يمحو أهم فصول حياتي و شخوصها ، و يذكرني بكل ما يخص محتويات صندوق خشبي بطول رجُل ؟ 
و جاءه التعليل في حينه .. بكلمتين فقط : لأنها تستحق ، نعم هي ذكرى تستحق البقاء ، و لأن عقلي دفع كل ذكرى لا تستحق مكاناً في الوجدان ، و لأن قلبي تعب من التذكر فداوى نفسه بالنسيان و اختار طريقه الأصوب .. اختار ما يحب .
و هذا ما أراده الدماغ البشري منذ الأزل ، أن يمحو كل شيء و يبقي على ابتسامات حفرت مكانها في الذاكرة ، اختارني الله لأحظى بهذه الميزة التي لا تتوفر لدى أغلب الناس .
و بينما يحاول الأطباء مساعدتي على الاستذكار شيئاً فشيئاً سأجاهد أنا بالنسيان و لن أحزن هذا القلب بالذكريات ، سأحافظ على طمأنينته كما لم يعش تعيساً ذات يوم ، سأتعلم كيف أحب أيامي القادمة ، و سأحب كل شيء أتعرف عليه لأول مرة.
سأكافح بابتسامة .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق