الأربعاء، 20 أكتوبر 2021

صرخة

صرخت منادية اياه : " يا بني ، لا تنسى أن تشرب الكثير من الماء ، لقد وضعت لك شطيرة في الجيب الأصغر من الحقيبة ، إلى اللقاء"

ودعته بعد أن طبعت على جبينه قبلة متناهية الرقة و الحب و الفخر بصغيرها الذي سيخطو أول خطوة بمفرده إلى طريق العلم و الدراسة ، ودعته و لم تكن تعلم ماهية وداعها ، و لم تشعر بأي معنى آخر لهذا الوداع سوى أنه باعث للسرور في نفسها ، و مضت تهنئ نفسها على نجاحٍ آخر مستحقٍ في اختبار أمومتها ، فقد أرسلت ابنها الوحيد إلى مقاعد الدراسة ليلتحق ببقية الأطفال من بني سنه ، و لتحظى نحلتها الصغيرة برشفة من رحيق المعرفة ، هذا ما خالته على الأقل .. فالقدر لا يسأل عن دواخلنا و لا يمضي بها ، القدر مكتوب لنا على نحو لا نتوقعه و لا نستطيع تخمينه .. و هذا هو ضعفنا الكبير و عجزنا الأكبر .

و بعد سويعات من الشوق ، اكتمل تجهيز غداء أول يوم دراسي و الذي حضرته بشغف و هي تنتظر أن يطرق الباب في أي لحظة ، ذلك الطفل الضئيل الذي لا تصل يداه إلى الجرس ، و لكنه تأخر كثيراً .. انتظرت .. لربما واجهوا مشكلة في الحافلة ، لربما تم اضافة حصة دراسية أخرى إلى الجدول المدرسي ، بدأ قلبها يخفق بسرعة ، و بدأت قطرات العرق تتساقط من جبينها بلا توقف حتى ذبلت ، حاولت الوصول إلى من يصلها بابنها من جديد ، لم تترك الهاتف لوهلة و هي تضغط على تلك الشاشة بعنف ثم تضعها على أذنها لعلها تحصل على إجابة يطمئن بها قلبها ، و لكن ما من مجيب ، واقفة أمام منزلها ترقب الطريق بقلق و كل ما فيها يرتجف ، ماذا حدث يا ترى ؟ لم يكن هذا ما خططت له ، لأن لا شيء على هذه الأرض محكوم بتخطيطنا له إنما هي مشيئة الله تسيّر كل شيء .

سكن قلبها رعب من أن لا تتمكن من رؤية صغيرها من جديد ، ساقتها قدماها إلى المدرسة التي تبعد كيلومترات عن منزلها ، تلهث من العطش و الخوف ينهش روحها و ما إن وصلت شاهدت منظراً تمنت لو أن روحها قبضت قبل أن تراه ، فتلك المدرسة التي استعدت بأبهى حلة لإستقبال ضحكات الغلمان ، قد أضحت الآن مقبرة في قلبها جثث دامية ، و أحلام متساقطة ، مستقبل تم نهشه بلا رحمة ، عندما حلت لم تجد صغيرها بل وجدت بقاياه ، و كأن روحها رحلت من هذه الدنيا الفانية و لم يتبق منها سوى هذا الجسد الذي لا يقوى على حملها بعد الآن ، فقدت شغفها ، روحها ، قلبها ، ابتسامتها ، طمأنينتها ، من بعد الآن لا شيء كالسابق ، من بعد الآن قد ألقي السواد عليها فهي الآن في مأتم لانهاية له  ، لا سبيل فيه للسعادة .. فقط حزن و بكاء و عويل و لا شيء آخر .

أطلقت صرخة استنزفت كل قواها و خرّت ساقطة على أرضها تكاد تغرق بدموعها ،  تلك التي ابتدأت صباحها بصرخة وداع حلوة ، ها هي تنهيه و تنهي معه كل سنينها بصرخة ألم لا مثيل له ، ألم ثكلى لا معنى للحياة لديها .

"لا أرغب بالحياة بدونك يا ولدي .. عُد إلي و إن لم تتعلم من الدنيا حرفاً واحداً .. لا أريد شيئاً آخر .. تباً لها من مدرسة تفرقني عنك "

توقفي يا أماه .. ليست المدرسة من قضت بتفريقنا ، بل وحوش تعيش بموتنا يا أمي ، لا تخافي و لا تحزني فأنا في أبعد مكان عن تلك الوحوش القذرة الدنيئة ، أنتظرك في الجنة ، أجمل مكان على الإطلاق .. هل تصدقين يا أمي .. إن الجنة مختلفة كلياً عن أرضنا ، ليس بها دمار و لا انفجار ، و لا حتى جوع و لا عطش ، و لا حزن ، الكل سعداء هنا ، أنا و أصدقائي أيضاً سعداء كثيراً ، يا ليتني زرتها من قبل ، و يا ليتني لا أفارقها أبداً .. لا تتأخري .

هو طفل سوري .. خال أنه ذاهب إلى مكان مليء بالكتب و الأصدقاء ، و لكنه لم يعد إلى المنزل في ذلك اليوم .

اللهم الهم أمه الصبر و السلوان .. اللهم ارحم قلبها المتفطر ألماً و اخزِ عدوها .. اللهم انتقم لها ممن فرقها عن فلذة كبدها .

اللهم ارحم الشهداء

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق