لا شيء .. وكلُّ الأشياء في اللاشيء من الأساس.
هاقَد التهمني جُبٌّ سحيق مظلم، سقطتُ وما كانت أي سقطة، سقطت حتى نسيتُ ماهيّة الخطوات، وشُلّتْ أقدامي، عجِزتُ عن استعادةِ خطوَتي الأولى، أو حتى لهفتي إليها وإلى المسير، لم يَعُد يعنيني الطريق ولا الرحلة، لا الأمام ولا الخلف، لا شَيء .. وكلُّ الأشياءِ في اللّاشيء!
تنفسَّت حرارة البيْن بين ضُلوعي، وددتُ لو أُطلِقُ صرخةً أفرِجُ بها عن كلِّ حرائقي، ولكن لا شيء سِوى غَمامة الصمتِ الرهيب تَبتلعُني إلى أعمقِ نقطة، كلما رَاودَتني خاطرةُ الهروبِ عن نفسي.
ولكنني في تلك الليلة فقط علمتُ أنّ السجنَ ليس في الجدرانِ، ولا في القضبانِ، بل هو في اللحظةِ التي يُطلَقُ عليكَ فيها لفظَ السّجين، فتصير أنتَ "السجين" في عقلِكَ ومُخيّلتك، وفي عقولِ الآخرين، الآخرين الذين يدفنونَك في جحيمِ زَنازينِهم بعد أن كنتَ مدفونًا من قبل في جحيمِ مودتهم الحُرّة.
لم يكُن الأمرُ مرتبطًا بالمادةِ أكثر مِن ارتباطهِ بالدواخلِ المُظلمة، فما الفرقُ إذًا بينَ غُرفةٍ في سجنٍ وغُرفة في بيتٍ يَعيشُ صاحبُهُ وَفِكرةُ السجينِ تَتغذَّى مِن خَلايَا دِمَاغه، وتَعيشُ القُضبانُ فِي مِرآتهِ الّتي تَستقبِله بِكُلّ أنَفَة صَبَاحاً.
....
لَستُ في بِدايةِ الحَلَقةِ أَو نِهايتها، فكُلُّه سَوَاء، تَدور الحَلَقة ويُعادُ مَعَها تَدويرُ الصُّروفِ والأعباءِ.
لِأَنها حَلقَة .. مُفرَغةٌ إِلّا مِن المُعانَاة المُستَدامة.
مِن الوِلادةِ لِلممَات نَحن مَن نَختَلِقُ المُسمَّيات، نُلبِسُ الثوَابِتَ رِداءَات، وَالأجْمَادَ مُتَحرِّكات، هُو هَكذا الإِنسانُ بِطبعِه، لا يُبقِي شَيئاً عَلى مَعدنِه، تُزعِجُه الصُّورةُ النَّقيةُ لِلأشياءِ فَيَأبى إلَّا أنْ يَنكُشَ نَواتَها بِطَرَف أُنمُلتِه، فَقط كَي يُكدِّر صَفوَها، ويُزعزِعَ حَقيقتَها، كُلّ ذلكَ مِن أجلِ حاجةٍ اخترعَها لِمُخادَعةِ نَفسه العَصِيّة عَلى القُبولِ والرُّكود. عِندما تَتَقافَز جُزيئاتُ عَقله يَسعى لِأَن يَنقُلَ هذه الشُّعلَة إلى مَا جَاوَرُه من الكَائِنات، إلى مَا استطَاعَ إِليهِ سَبيلاً من المُحيط.
ولأنَّهُ إنسان.. جُلُّ أَشيائِهِ يُسنِدُها إلى الّلاشَيء!